السبت، 22 أكتوبر 2011

رحلة نحوية في رحاب القرآن الكريم

رحلة نحوية في رحاب القرآن الكريم

(النحو في ظلال القرآن) كتاب من محتويات المكتبة الإسلامية العامرة عبر العصور، والتي لا تزداد إلا ثراء معرفيا وفكريا وغزارة إنتاجية. وفيه نتفيأ ظلال القرآن الكريم بصحبةِ واحدٍ من أجلِّ علوم العربية وهو علم النحو.
مؤلفةُ الكتابِ هي الأستاذة عزيزة يونس بشير، وأصدرته دار مجدلاوي للنشر بالأردن في 272 صفحة.
تقول الكاتبة إنها وضعت هذا الكتاب رغبة في خدمة دينها وكتاب ربها ولغتها ومجتمعها، لا سيما ما رأته من إعراض عن هذا الكتاب الجليل، وعن هذه اللغة الشريفة، وإن مما أعانها في وضع هذا الكتاب حرصها على البحث والتنقيب والاستشهاد، من أجل تجاوز العقبات التي تواجهها في المسائل العويصة أو الإشكالات المثارة حول بعض كلمات القرآن الكريم، أو تراكيبه، وتتابع: “وكان كل ذلك نبعا أعانني على الوصول إلى الحقيقة مع مصادر النحو واللغة والتفسير والمعاجم، وخبرتي التي لا تقل عن ثلاثة عقود في تدريس اللغة العربية مستعرضةً مستنتجةً متوصلةً بإذن الله إلى قواعد ثابتة وحلول سريعة وحقائق لا جدلَ حولها، أو على الأقل تخفف منه؛ لأضعها بكل تواضع أمام محبي الدين والعربية؛ لأسهل عليهم تناولها، ولأقصر عليهم طريق البحث، ولأضع لهم النقاط على الحروف، ولأنزع تلك العثرات التي وقفنا أمامها طويلا، فأخذت من لغتنا ووقتنا وجهدنا الكثير، لنتفرغ لكتاب الله، ونقف على أسراره، ونفهم ما يريد، ولنخدم لغتنا العربية التي يتناوشها البعيد والقريب”.
يتألف الكتاب من خمسة أبواب هي: غرائبُ نحوية، قضايا نحوية، بين القول والحقيقة، النحو والإعجاز القرآني، الصرف وفيه: بِنيةُ الكلمة وأثرها  جموعٌ ومفرداتٌ غريبة  الإملاء وبِنية الكلمة خطّاً ومعنى  خلاصة لاءات لسلامةِ لغتنا العربية... ثم فصل بعنوان: قل ولا تقل.

الغرائب النحوية:

نتصفح معكم البابَ الأول الذي يعرض بعض ما قد يتوقف قارئ كتاب الله أمامه مستغربا من حركة يظنها في غير موضعها، أو إعراب يراه غير مناسب، وقد جمعت الكاتبة من خلال خبرتها التدريسية ومعاشرتها لأنماط من البشر من طلاب العلم وأولياء الأمور وزملاء المهنة وعامة الناس الذين يعرضون بعض ما يشتبه عليهم ما سمته بالغرائب النحوية.
واخترنا لكم هذا المبحث الصغير من هذا الباب، حيث نجد عنوانا باسم: (كانَ) التامة والناقصة، وفيه تتناول المؤلفةُ آيةً قرآنية جمعت الاثنتين معا، وهي قوله تعالى: “وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير” الأنفال.
فنجد فيها (كان) التامة التي تحتاج فاعلا وهي الأولى منهما (لا تكون فتنة)، فالفتنة فاعل، وتكون معناها يحدث.
كما نجد فيها (كان) التي هي فعل ناقص يدخل الجملة الاسمية فيرفع ركنَها الأول ويسمى اسمَ كان، وينصب الركن الثاني ويسمى (خبر كان).. وذلك في قوله: “ويكون الدينُ كله لله”، حيث لا يكتمل المعنى في قولنا (ويكون الدين)، فلا بد من إكمال الجملة ليتم المعنى.
ونقدم لكم ما كتبته المؤلفة لنعرف أسلوبها القائمَ في كثير من الأحيان على طرح السؤال ثم عرض الجواب وليس بالسرد المطلق الذي يجمع المعلومات في قالب واحد.
** يقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 39)
المقصود الغريب:
أولا  قوله تعالى: (تكونَ فتنة).
ثانيا : قوله تعالى: (ويكونَ الدينُ كلُّه لله)
هل فتنة اسم تكون؟ ولو كانت كذلك أين الخبر؟
البيان:
1 تكونُ: فعل مضارع تام منصوب بأن مضمرة، وعلامة نصبه الفتحة، ومعناه تحدث.
حتى: حرف غاية وجر.
لا: نافية.
فتنة: فاعل مرفوع للفعل التام تكون، وعلامة رفعه تنوين الضم، والتقدير حتى لا تحدُثَ فتنةٌ.
قاعدة: تأتي كان تامةً إذا كانت بمعنى حدث، وهي هنا كذلك.
 في الثانية وهي قول الله: (ويكونَ الدينُ كلُّه لله) هل ينطبق ما قلناه سابقا على يكون هذه؟ ولو كان كذلك ما إعرابُ أو ما الموقع الإعرابي للجار والمجرور؟
البيان: يكونَ الدين: لا يتم المعنى بهما، وبحاجة للإخبار: لأن كان ناقصة.
يكونَ: فعل ناقص مضارع معطوف على ما قبله منصوب وعلامة نصبه الفتحة.
الدين: اسم يكون مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والهاء ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة.
لله: جار ومجرور متعلقان بخبر كان المحذوف، أو نقول في محل رفع خبر يكون.


مخلوقات أخرى:

وفي فصل متقدم من الباب نفسه تتحدث المؤلفة عن احتمال وجودِ مخلوقاتٍ في الكواكب العَلية غير الملائكة، وحيوانات تشبه الحيوانات على الأرض، ولكن لا وجود لإنسان إلا على الأرض.
وتستند المؤلفة في قولها هذا إلى إشارة في آية من سورة الشورى تقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (الشورى: 29)
تتناول المؤلفة إعراب جزء من الآية أولا فتقول فيه:
 إذا: ظرفية بمعنى وقت، أي: وهو على جمعهم وقت يشاء قدير.
ولكن لا يظهر عليه الشرط، ولو كانت شرطية أين جوابُها؟
البيان: (إذا) في محل نصب ظرف زمان، ولا تتضمن الشرط أبدا.
يشاء: فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره (هو) عائد على لفظ الجلالة، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة.
قاعدة: قد تخرج (إذا) عن معنى الشرطية كما مر سابقا، لكن أكثر ما يكون ذلك بعد القسم، وعند ذلك لا تتعلق بالجواب لأنه لا جواب لها، وإنما تتعلق بحال محذوفة من المقسم به مثل قوله تعالى: “والليلِ إذا يغشى” في محل نصب ظرف زمان متعلق بحال محذوفة من الليل والتقدير: أقسم بالليل كائنا إذا يغشى. لأن (إذا) إذا دخلت على الماضي كان مستقبلا، أو على المضارع كان نصا في الاستقبال. ثم تبرز المؤلفة رأيها في قضية المخلوقات الأخرى غير الإنسان فتقول: والآية السابقة تشير إلى احتمال وجود حياة، أي مخلوقات في الكواكب العلية، مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقاتِ الأرض، وحيوانات تشبه الحيوانات على الأرض كما أثبتوا في المريخ. ولكن غير الإنسان لأن الإنسان لا يوجد إلا على الأرض لقوله تعالى: “قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ” (الأعراف: 25).

فن الالتفات:

في باب النحو والإعجاز القرآني تقف المؤلفة مع فن الالتفات في القرآن الكريم، وتقدم مثالا من مطلع سورة الفتح: “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً” حيث استعملت الآية الفعل الماضي فتح، فجاء الإخبار بصيغة الماضي مع أن الفتح المقصود (فتح مكة) لم يقع بعد، بل سيق مستقبلا. وهذا من الإعجاز القرآني إذ يتحدث بصيغة الماضي عن المستقبل ليؤكد للناس وقوع فتح مكة على عادة رب العزة سبحانه في إخباره. وذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن الفتح، وبشارة عظيمة من الله لرسوله وللمؤمنين، ووعد بالفتح بعد رجوع النبي والمسلمين من الحديبية. وعندما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”.
وقد يكون الالتفات بالإخبار عن الماضي بالمستقبل: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10).
فالبيعة تمت ولكن الخبر في الآية جاء بالمضارع لاستحضار صورة المبايعين للنبي في الأذهان وكأنهم يبايعون أمامنا.
وقد يكون الالتفات بالانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير الخطاب أو العكس، وهو محسّن بديعي معنوي متنوع الاغراض.

لاءات لسلامة اللغة

في الباب الأخير من كتابها تقدم الكاتبة جمعا لبعض قواعد اللغة بعبارات مختصرة جامعة تبدأ بأداة النفي الشهيرة لا. وتسمي هذه القواعد: لاءات لسلامة لغتنا العربية، واخترنا لكم هذه اللاءات منها:
* لا جمعَ بين الألفاظ الدالة على كونٍ عام، والظرف أو الجار والمجرور، لتضمنهما المعنى نفسه.
“إن الله عنده علمُ الساعة” عبارة صحيحة
إن الله يوجد عنده علم الساعة.. عبارة خطأ لغوياً
عندي ثلاثون مجلداً.. عبارة صحيحة
يوجد عندي ثلاثون مجلداً.. عبارة خطأ
* لا تكرار ل (كلما) في الجملة الشرطية
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً.. كلام صحيح
كلما دخل عليها زكريا المحراب كلما وجد عندها رزقا... عبارة خطأ
وفي دعوة للفصحى تقدم لنا المؤلفة قائمة ألفاظ وتراكيب تحت عنوان: “قل ولا تقل”، وهذه الدعوة تصحيح لأخطاء شائعة درجت على ألسنتنا حتى توهمنا بأنها الصحيحة وغيرُها دون ذلك.. اخترنا لكم هذه الأمثلة:
 الخطأ: أسلوب شيق.. الصواب: أسلوب شائق
 الخطأ: فازت الدولة على جميع الأصعدة.. الصواب: فازت الدولة على جميع الصعد
 الخطأ: نفَذ الوقت قبل إنهاء العمل.. الصواب: نَفِد الوقت، لأن نفد يعني انتهى
 الخطأ: عرفنا صدق نواياكم.. الصواب: عرفنا صدق نياتكم
 الخطأ: كم هو جميل هذا المنظر؟ كم هي رائعةٌ الطبيعة!
الصواب: ما أجمل هذا المنظر! ما أروع الطبيعة!
هذا وإن الكتاب مدعم بالجداول التي توضح القضايا المطروحة مثل الجدول الذي يبين الفرق بين (كم) الخبرية و(كم) الاستفهامية، وجدول الجموع والمفردات الغريبة، وجدول للكلمات الغريبة والمعاني حسب الحركة وترتيب الحروف.
وهذا الكتاب جهد مشكور من المؤلفة وهي تدرس النحو في ظلال القرآن وتؤكد عروبة القرآن وفصاحة لسانه بأمثلة مشرقة وتوضيح صاف وإزالة لأي لبْس أو إشكال يعترض القارئ.
ونختم معكم بهذين البيتين اللذين قالتهما المؤلفة وصدرتهما بهذه الكلمات:
الدين باق واللغة باقية ما بقيت الحياة
للضاد زاويةٌ في القلبِ مُشرَعةٌ
للعُربِ جامعةٌ، للدينِ شريانُ
سُدنا بها دُنيا الشعوبِ محبةً
للعالمية قادَها قرآنُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق